كافة الحقوق محفوظة © 2021.
وداعا أيتها الروح الطيبة… بقلم : أكثم حرب
في مثل هذا الوقت بالضبط ، وقبل أسبوع بالتمام والكمال رحل أبي . صورة وجهه وهو ينظر نظرات ذاهلة ، بينما يحاول إبعاد قناع الأكسجين بحركات بطيئة وضعيفة جدا ، وبكلتا يديه ، وبتقلصات ساقه اليسرى بين الفينة والأخرى ، صورة لن يمحيها الزمن ، ولن تُنسنيها الحادثات على اختلافها .
عندما كنت أسأله : هل أنت متعب ؟ كان يُجيب بالنفي بهز رأسه يمنة ويسرة . ذاك ديدنه طيلة حياته ، كان ينكر تعبه وإرهاقه ومرضه كي لا يقلقنا ، ولم ينس عادته تلك حتى وهو في سكرات الموت . الإجابة اللاهبة الحارقة ، والتي زلزلتني من أعماقي ، كانت بهز رأسه بالموافقة ، عندما سألته : “حاب تروِّح عالبيت” ؟ لا أعلم عندما هز رأسه موافقا ، عن سبب شعوري برغبة عارمة بخلع الأجهزة كلها رغما عن الأطباء والممرضين ، وأن أحمله على أكتافي ، وأركض به إلى المنزل ركضا .
الغرفة الكئيبة ، والتي يسمونها العناية الحثيثة ، وشاشة عرض المعلومات ، والتي قضيت أمامها ساعات طويلة ، وأنا أمني النفس بارتفاع الضغط بعد هبوطه إلى مستوى الخطورة ، وارتفاع نسبة الأكسجين بعد أن بدأ يلم حقائبه ، وباستقرار النبض بعد أن أهوى وارتفع مرارا وتكرارا .
ذلك الصوت الصارخ المندهش ، والذي انبعث من غرفة مجاورة ، وكان صاحبه يصرخ : لا يابا ، مشان الله يابا !! كانت صرخة شاب فقد والده للتو ، ووجدتني أسأل نفسي فجأة : هل سأصرخ مثله بعد قليل ؟ يا رباه ، هل أنا في حلم ؟
وحانت لحظة الوداع القاسية . الثانية والنصف بعد ظهر الجمعة . النبض ينخفض إلى أدنى درجة ، والضغط يهوي ، والأكسجين يرتفع ولكن بعد فوات الأوان . يحرك أبي رأسه للمرة الأخيرة ، وينفخ نفخة خفيفة ، وكأنه يطفئ شمعة ، وتصعد الروح إلى بارئها .
الظلام الشديد الذي أحاط بي ، والخيالات المسرعة التي تتابعت أمام ناظريّ . الشاب الذي مشى بسرير أبي إلى ثلاجة الموتى ، و”بطانية” بيضاء مكتوب عليها وزارة الصحة ، تغطي الجسد الذي طالما آواني وكفكف دموعي ودافع عني .
لا أعلم كيف انخرطت بنوبة بكاء هستيري أمام الجميع ، كطفل أخذوا لعبته عنوة . حاول الجميع تهدئتي ، حتى كادر المستشفى نفسه . كنت أتبع سرير أبي كالمجنون ، وكأنه طريق نجاة وحيد من حريق أو زلزال . وحين وصل السرير إلى غرفةالثلاجة ، انقضضت عليه ، وكشفت عن وجهه الذي أنهكته السنون ، وأتعبته الأمراض . كان ما يزال يحدق إلى الفراغ ، كما كان في غرفة العناية الحثيثة ، قبلت جبينه القبلة الأخيرة ، وازدادت نوبة بكائي ونحيبي . أخرجوني رغما عني من هناك ، وأنا لا حول لي ولا قوة . كان السؤال يلح علي طوال الطريق : هل هذا حلم أم حقيقة ؟ لم أصدق أبدا . أبي الذي صحبته إلى المستشفى عشرات المرات ، وفي كل مرة يعود معنا إلى المنزل سالما غانما . كيف سأتركه هذه المرة وأعود دونه ، بل وفي ثلاجة الموتى ؟ يا الله ، ما أقسى الموت ، وما أصعب الفراق !
في ذاكرة شقيقاتي وأشقائي ، وكلهم يكبرونني كوني “آخر العنقود” ، أخبروني أن أبي هو من عاد إلى المنزل يحملني بعد ولادتي . المشهد يتكرر الآن ، ولكن على العكس تماما . أنا من يحمل أبي ، وهذه المرة إلى المقبرة ! ما أصعبها والله ، وما أقساها !
هكذا يا أبي ، صندوق صغير من الطوب والإسمنت ، يختزل سبعة مائة عام . الأهوال العظام ، والتحديات الجسام ، ملاعبتك لأطفالك وحرصك عليهم ، ابتسامتك التي لم تكن تفارق ثغرك ، عكازتك السوداء المركونة وحدها في زاوية غرفتك ، “الفروة” التي كنت تتقي بها برد الشتاء ، ونسائم الصيف المنعشة أحيانا . كوب الماء البلاستيكي الذي كان يطيب لك أن تشرب منه ، وكأس الشاي الذي تركته ولن يمسه بعدك أحد . مكانك على السرير ، و”ركَّايتك” التي كنت ترتكي عليها . الأشجار التي زرعتها بيديك ، المكان بين حوض النباتات والشجرة الكبيرة أمام البيت ، والذي اعتدت أن تضع فيه كرسي “البلاستيك” وتجلس هناك . كل شيء يذكرني بك ، فكيف لي أن أنساك ؟
والدي ، والذي منذ وعيت على الحياة ، لم تمتد يده لتضربني قط . كان أقصى ما يمكن أن يعبر فيه عن غضبه ، ان يرمقني بنظرة عتاب ، وسرعان ما أقبل يده فيبتسم ابتسامته المعهودة . اليد ذاتها ، التي كانت تحاول إبعاد قناع الأكسجين في لحظات حياته الأخيرة .
كونٌ مظلم ، وشعور بالوحدة ، وفراغ هائل . هذه حياتي الآن ، ولا أعلم إلى متى .
وداعا أبي ، وداعا نبراسي ودليلي ومرشدي . وداعا أيتها الروح الطيبة الطاهرة . السلام عليك يا أبي الحبيب، وأعدك بأنني لن أنساك ما حييت .