كافة الحقوق محفوظة © 2021.
ملابس … وذكريات … بقلم : د. منتهى الطراونة
في لحظة انتقالية بين شتاء مغادر ، وصيف قادم ؛ تصطف الملابس ؛ تنتظر لحظة انتقالها في رحلتها السنوية ؛ فمنها مَن يغادر إلى غير رجعة ، ومنها مَن يُحشَر في حقيبة تكتم أنفاسه ؛ لحين العودة ثانية !
لا تهدأ النساء في البيوت ؛ حتى تنهي هذا العمل المضني
؛ أما أنا فلي وقفة معها .
ففي ذلك الركن القصيّ ؛ تقبع كقنبلة موقوتة للذكريات ، كل مرة ؛ أقتربُ للحظات ، ثم أغادر مسرعة قبيل الانفجار ، وتشظّي ما تبقّى من جدران القلب .
اليوم ؛ تجرّأتُ ، وأقمت طويلًا ، وقلّبت رفوفها واحدًا بعد آخر ، في شجاعة لا أدري كيف (غمرت) هذا القلب الجبان ! هذا فستان (أسود) ؛ لمناسبة غاب عنها أبي ، وذلك (أبيض) ، لم يستقر كثيرًا ؛ فكان يسافر في رحلات (إعارة) لقريبة هنا ، أو صديقة هناك ؛ عاد من رحلته الأخيرة ، قبل تشييعه إلى مثواه في الرفّ العلوي ، ينتظر أن تنبشه إحدى حفيداتي بعد أن أغادر ، لتتهادى فيه طالبة لي الرحمة ، (وقد تنسى أن تفعل) ؛ معلنة لصديقاتها أن جدتها كانت أنيقة ذوّاقة !
وذلك حذاء ذو كعب عالٍ (مسمار) أبيض ، لكنه ملوّث ببقايا دماء مَن ذهبوا ضحية حادث سير ؛ كنتُ أحد أبطاله الناجين بلطف الله ، لم أشأ أن أتخلّى عنه ؛ فهو رفيق ذلك الفستان ، قد تحاول حفيدة أخرى أن تطيل قامتها بضع سنتميرات ، لحظة انتعاله ضاحكة من دقة كعبه ، متعجبة من جدتها كيف احتملته ذات يوم ساعات طويلة !
في رفّ أكثر التصاقًا بالقلب ؛ ثوب أمي ، و(معطف) أبي ، وعلبة سجائره ، وكتاب أثير لديه ؛ سرقته من مكتبته في غفلة من شقيقاتي !
أما ذلك الرفّ العامّ (الكوكتيل) ؛
فهذه قاروة عطر من صديقة لاقت وجه ربها ، وتركتها لي أشتمّ فيها ذكراها ، وتلك حقيبة يد من صديقة حالت بيني وبينها المسافات ، وتلك تحفة فضّية خشيت أن يتلفها الهواء ، فيترك عليها ندوبًا تشوّه جمالها ، وذلك صندوق زجاجي يكشف عن بقايا ورود جافة ، ذهب عبيرها ، واستحال شيئًا آخر لا علاقة له بالعطر !
تلك رسالة من صديقة أثيرة ؛ ملونة ، ومزركشة بالورود ، والقلوب ، كانت معطّرة بشذى الخزامى ، اصفرّت ، وتلاشت بعض حروفها ، وذلك كتيب صغير (أوتوجراف) في كل صفحة منه وجه معلم ، معلمة ، صديقة ، زميلة مقعد دراسي ، قريب ، قريبة ، مع كلماتهم ، وأمنياتهم ، ولا أدري حتى الآن كيف غاب عنه أبي !
بقايا عطر في زجاجاته الفارغة ، أعقاب سجائر ، أوراق تغليف هدايا ، عملات دول مختلفة ، ألبومات صور ، كاميرات قديمة ، أشرطة تسجيل ، واسطوانات ، وأغنيات ، وراديو صغير من والدي ؛ كنت أبحث عبر موجات أثيره عن أصوات أحببتها ، ووجوه تخيلتها ، دواوين شعر ، ودروع ، وهدايا تكريم اخترت بعضها لكثرتها ، ولضيق المكان .
تجرّأت ، وعن سابق إصرار ؛ لأنكأ جراحًا غائرة ، كنت أظنها رُتقت ، لكنها عادت طازجة ، مع أول رائحة شممتها عند فتح خزانة الذكريات ؛ تلك القابعة في الركن البعيد !
نصيحة ؛ لا تفعلوا …