كافة الحقوق محفوظة © 2021.
كتب وقراءة… بقلم : د. منتهى الطراونة
والليل يوشك أن يرخي سدوله؛ في بيتنا البسيط، القابع في ذلك الزقاق في القرية الجنوبية البعيدة، في ليلة شاتية باردة، في وقتها متسع للكثير من القراءة، والتأمل، وإدارة العقل، وتوجيهه نحو ما تريده النفس وما ترغب فيه؛ أتناول كتابًا من مكتبتنا الخشبية الصغيرة، ذات الوجه الزجاجي، فأبحث عن ركن آوي إليه معه، لأجد واحدة من شقيقاتي سبقتني إليه، فأنتقل إلى ركن آخر، لكن عيني تبقى تتابعها، إلى أن تغادره، وبسرعة البرق أحتلّه؛ لأجلس مع كتابي؛ ألتهم كل ما فيه مثل وجبة لذيذة، فأدوّن بعض العبارات التي قد تعجبني، وأبذل جهودًا لأحتفظ ببعضها في الذاكرة؛ كي أعيد استخدامها في موضوع تعبير طالما وجهّتُ المعلمة إليه، في غفلة من زميلاتي، اللواتي إن اكتشفن الأمر؛ بدأت كل واحدة منهن تعاتبني ببراءة؛ لِمَ ورطتهن فيه!
فأضحك، وأبدأ ب(الاستعراض؛الذي أمقته وما زلت أنأى بنفسي عنه، وأتوارى خلف ما يمكن إنجازه)؛ فأبدأ بإظهار قراءاتي، ومطالعاتي، فأستعير عبارات المنفلوطي، والرافعي، ويوسف السباعي، ونجيب محفوظ، وأحمد أمين، وجبران، وبعض أبيات الشابي، والسياب، وغيرهم الكثير .
كنت أجعل مما أقرأ شعارات لي في الحياة؛ فما زلت أردد عبارة لسيرانو دي برجراك في كتاب الشاعر؛ الذي ترجمه المنفلوطي ” لا أحب أن أرتفع ارتفاع الزيزفون والسرو إذا كانت اليد التي ترفعني غير يدي، وحسبي من الرفعة والشرف أن أنال منهما نصيبي الذي قدّر لي بقدر ما تسمح به قوّتي ومواهبي ”
وما زلت أقولها لابني؛(عبدالله) حين أوجهه؛ بأن يعتمد على نفسه، فيضحك مازحًا ويقول؛ جيلكم غير جيلنا، نحن جيل عاجز لا يحب أن يتعب، وإن وجد مَن يحمله؛ فلا بأس .
كنت أبكي مع المنفلوطي مترجم الفضيلة، وما زلت أحفظ عبارتها الأميز ” ما أجلّ الفضيلة، وما أرفع شأنها، إنها الشريعة التي يقف أمامها الجميع، يرتلون آية واحدة بنغمة واحدة ”
ما زلت أغنّي مع الشابي للحياة
” أقبل الصبح جميلًا يملأ الكون بهاه “.
وما زلت أؤمن بأن الحب أساس الكون، وأغمض عيني، وأتخيل ذلك الموقف بين بطليّ قصة إني راحلة؛ ليوسف السباعي لحظة غروب حزين .
وما زلت أجوب شوارع المدن في؛ مدن الملح؛ لعبدالرحمن منيف، وفي قصة مدينتين، لتشارلز ديكنز، ما زلت أقف احترامًا لجان فالجان في البؤساء.
وأقف إجلالًا لوالدي الذي كان يقتطع بعض المال؛ على ضيق ذات اليد آنذاك؛ كي يبتاع الكتب لنا، ويحثنا على المطالعة، والمشاركة في مسابقات أوائل المطالعين، وما زلنا نحتفظ بذكرياتها، وجوائزها القيّمة، أذكر مرة أن شقيقتي سهام؛ ذكرت اسم كتاب أمامه تتمنى أن تقرأه؛ فما كان منه إلا أن بحث عنه في مكتبات الكرك؛ (الوعي، والخطيب) إذ لم يكن في المدينة غيرهما، وحين لم يجده؛ بحث عنه في عمان؛ ليأتي به مفاجأة لها!
الكتاب هو؛ آلام فارتر للفيلسوف الألماني جوته، المتربع في مكتبتي؛ فقد سرقته في غفلة من سهام؛ يوم أن غادرت بيتنا، مع مقتنيات كثيرة تحمل عطر أبي، وذكراه، وما زلت أحفظ عبارة منه؛ “بؤسًا لاؤلئك الذين يتخذون من سلطانهم على بعض القلوب سبيلًا لحرمانها تلك المسرّات البسيطة التي تنبعث فيها من تلقاء نفسها”.
واستأثرت لنفسي بمقدمة ابن خلدون؛ التي كانت آخر ما قرأ قبيل رحيله المفاجىء، وما زالت علامات كان وضعها عند بعض الجمل؛ تقول إنه قارىء ذكي فَطِن.
في قراءة الكتب يفتح لك العالم الواسع، النقي، المنضبط أبوابه، تنهل منه ما تشاء، شرط أن تحسن الاختيار؛ فالكتاب صديق أمين، لا يُسلمك، ولا يخذلك، ولا يتخلّى عنك، سرقَنا منه العالم الافتراضي؛ الذي ما إن تفتح صفحاته البائسة، حتى يصفعك بكل المعاني الأكثر بؤسًا، والأشدّ قبحًا من نفوس أصحابها؛ فبتنا تائهين، مضطربين، لا نعلم الصادق من الكاذب، السارق من الأمين، فترى الأفكار المنسوخة من الصفحات تجوبه بأسماء س وص، (وكلّ يدّعي وصلًا بليلى)!
فيصفق الناس، ويمتدحون الأديب الأريب!
القراءة عالم أجمل؛ أهرب إليه من مواقف البشر، وسخف بعضهم، وسوء ظنه، وتتبعه حركاتك وسكناتك، ونشر الإشاعات، وضحالة تفكيره، وتبلّد مشاعره، أهرب لأغنّي معه لأجمل المعاني وأسماها؛ النقاء، والبساطة، والتواضع، والحب، والجمال، والوفاء !