كافة الحقوق محفوظة © 2021.
تجوال حقيقة وخيال…. بقلم : د. منتهى الطراونة
تسكنني الأماكن قبل أن أسكنها، وكذلك الوجوه، وكلما هزني الحنين أيمم وجهي شطرها واقعًا وخيالًا!
بالأمس في الكرك القديمة، وعبر جولة قتلتُ فيها قلبي مع سبق الإصرار والترصد، بدأتها من شارع الخضر موطن البدايات الأولى، ومهد الذاكرة.
جعلت المقام عن شمالي وصعدت متثاقلة الخطى، وللقلب أزيز وللأنفاس حشرجة بدأت ملامحها على باب أشبعته طَرقًا وتناثر عليه الحنين، وأجابك صدى صوت يقول؛ كانوا هنا ثم رحلوا!
روائح قهوة الشرفات عادت من جديد، وثرثرات الجارات عبرها، نداءات الباعة، صراخ الأطفال خلف كرة تدحرجت تحت عجلات السيارات، واستقرت في الساحة المجاورة للخضر.
يزداد وجيب القلب فهذا أول بيت سكنته لم أستطع النظر إلى بوابته، تعثرت خطاي هناك، وتسمرت عيون غطّاها الدمع، فهذه أنا أصعد تلك الدرجات عائدة بعد يوم عمل حافل، وكلّي شوق للاستراحة في أركانه! لم تتغير ملامحه فقط غزاها شحوب من فرط الأشواق!
هذه بيوت الجيران عن اليمين وعن الشمال، المدادحة، المبيضين، الشمايلة، الصرايرة، المعايطة، المكاوي، ذباح الجمل، العاشق، العابد، القرالة، الرهايفة، البواليز، عاشور، الخضري، الحطيبات، السحيمات، الضمور، فسيفساء تشكلت من عشائر الكرك، ومن ضيوفها ذات زمن لكنهم أصبحوا من أهل الدار، ما تزال الأماكن هي هي لكن تغير الساكنون، هذا متجر العم يوسف المكاوي لبيع أشهى الألبان، وهذه ملحمة العاشق، وهذا مطعم الزمر لأشهى إفطار، وهذا محل بيع أشرطة الكاسيت ليوسف، تنبعث منه أحدث التسجيلات بحسب ذوق المتوقفين عنده، فمرة تسمع محمد عبده يشدو على البال كل التفاصيل، ومرة يتلو عبدالباسط آيات من الذكر الحكيم تقشعر منه جلود الذين آمنوا ثم تلين القلوب.
تواصل نزول الشارع الرئيس، ثم ينعطف قلبك قبل قدميك يسارًا؛ فهذا هو العم إلياس البدوي، ومواقفه معنا لا تنسى، وصفوان الحدادين بوسامته وذوقه، والعم أبو حسام الكساسبة يستوقفك يسألك عنك وعن أخبار أهلك، تواصل السير فيزداد وجيب القلب الذي أشاح عن الكثير كي لا يرى الناس هشاشته وهو يتجه نحو مبنى قضيت فيه ثلث عمرك، بكل ناسه وذكرياته، تنحرف يسارًا لتصعد درب القلعة، ليس ليلقيك الأتراك من على أسوارها إلى الوادي السحيق، ويسجل اسمك في سجل البطولة والشهادة، لكن لتقف على بوابتها تقرأ أسماء شهداء جدد من أبنائها قاوموا خوارج العصر وحرروها من دنسهم، وتطرفهم!
ومن غير إرادة منك تواصل السير، ولسان حالك يقول مع الشاعر:
خوَت الديار من الأحبة كلهم
أوّاه ما أقسى الديار الخاوية!
لترى نفسك متوقفًا مرة أخرى في شارع الخضر، قبل أن توشك الشمس أن تغيب فتعود أدراجك إلى حيث يقيم جسدك دون روحك، وللحظة تحس أنك في حي من أحياء القاهرة؛ أعداد غفيرة من الأخوة المصريين بلباسهم التقليدي، يتجمعون أمام قهوة اسمها؛ القاهرة للمعسل والأراجيل؛ روائح مختلطة بين التفاح، والدراق، وأشياء لا تستطيع تمييزها!
نداءات الباعة على الخضار باللهجة المصرية!
أكثر الوجوه التي قابلتها من الأخوة المصريين!
وقِس على ذلك ما فعله الأخوة السوريون في معظم شوارعنا ومدننا؛ فهذا؛ مال الشام للحلويات؛ و باب الحارة للفلافل؛ وملحمة حلب؛ و….و….الكثير.
لستُ ضد امتزاج الثقافات أبدًا، ولا ضد تواجد أخوتنا معنا في أردن العرب، لكنني ضد أن تضيع الهوية الأردنية بتفاصيلها، وأصالتها، وأن نبحث عنها في وجوه ربما لم تسعفنا في تذكر ملامحها!
وصدقوني أنني بحثت عن أسماء، وملامح أردنية في عواصم، ومدن عربية عشت فيها وزرتها، فلم أجد إﻻ نادرًا، وعلى استحياء!
لم تحقق زيارتي للشارع هدفها، فقد ضاعت ملامحه، وذابت كقطعة سكر في فنجان؛ لم أذقه إﻻ مرًّا وعلقمًا!
لكن المضحك في الأمر؛ أنني وبعد أن أفقت من تأملاتي، وجدتني أرتدي ثوبًا مصريًا؛ ابتعته من القاهرة ذات سفر، وأستمع لعبدالوهاب موسيقار الأجيال، وعلى مقام (الراست) يشدو؛
عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر
اسألوا لي الليل عن نجم
متى نجمي يظهر!
كل نجم راح في الليل بنجم يتنوّر
غير قلبي فهو ما زال على الأفق مُحيَّر