كافة الحقوق محفوظة © 2021.
حنين لأبي لجامعتي وللأصدقاء … بقلم : د. منتهى الطراونة
إلى كل من احتضنهم قلبي عبر دروب الحياة، ومحطاتها الكثيرة …
إلى كل الذين لا أعرف لهم عنوانًا، ولا أعرف أين ألقت بهم الأيام …
إلى كل الذين توقفتُ معهم هنا، وجمعنا هذا الشارع لثلاث من السنوات هن أجمل العمر أقول :
سوا ربينا سوا مشينا سوى قضّينا ليالينا
معقول الفراق يمحي أسامينا ونحنا سوا سوا ربينا…
قولك بعد الرفقة والعمر العتيق نوقع مثل ورقة كل من ع طريق!
وإن مرّ بخاطركم طيفي وتساءلتم عني؛ فأنا هنا ما زلت عالقة على تلك النافذة، في الغرفة ١٠١، في جناح الكويت، في المنزل الغربي الذي أصبح الآن مركز دراسات واستشارات في الجامعة الأم، ما زلت هناك على قيد الانتظار؛ فاليوم هو الجمعة، وقلبي الذي لم يكذب عليّ يومًا يقول لا تغادري النافذة، سيأتي بعد قليل..
لم يهاتفني أبي يخبرني أنه قادم لزيارتي، إذ لم تكن الهواتف المحمولة قد دخلت عالمنا آنذاك، وليس في بيتنا هاتف أرضي، مثل كل بيوت القرية التي تفتقد ذلك الجهاز، كانت قلوبنا وأرواحنا تتخاطر عن بعد، في علم اكتشفه العالم حديثًا، وبات يبني عليه الكثير من القصص والحكايا، ليس مثل تخاطر روحي ميلينيا وكافكا، ولا غسان وغادة، على ما فيه من جمال ورقيّ؛ لكنها الأبوّة في أبهى تجلياتها، وقدسيتها…
لا بأس سأنتظر، سيأتي حتمًا،
ربما يتأخر قليلًا فقد يغير برنامج الزيارة؛ فيبدأ من السلط التي يزور معهدها العريق، يتفقد شقيقتي (بسمة) قبلي، فبسمة لها في قلبه مكانة خاصة، فهي الهادئة الخجولة، التي ما زالت تعنوِن حياتها بالحياء، فنانة لا تثرثر، وتكتفي بأن تفرغ كلماتها على الورق خطًا ولونًا، ترسم لوحاتٍ وتصمم أعمالًا فنية يدوية، فتصير في يدها تحفًا تزين بها الأركان ..
وما بين أحاديث نفسي، وهواجسها، ومن بين أشجار السرو يظهر والدي بمظهره الأنيق، ومشيته الرزينة، وخطواته التي اعتادت السير في هذا الشارع، وحفظته عن ظهر حب، حين كان يأتي لزيارة شقيقتي (هدى) أول خريجة في الأدب الإنجليزي آنذاك، والتي سبقتني، ولم ألتق بها في الجامعة، وبعد ذلك، وبعد أن تخرجت، بدأ خطوات زيارات لم تكتمل لشقيقتي (رغد) حيث انتقل إلى رحمة الله، ولمّا تنهل رغد من دفء ذلك التواجد معه، وأما شقيقتي (سهام) فقد انتحت جانبًا للعمل، حتى تسنّى لها التخرج من جامعة مؤتة، فكانت الأكثر إيثارًا منّا جميعًا.
يفزّ قلبي ويطير فرحًا، حتى كدت مرة أن أقفز من النافذة لولا أن تولتني عناية الله في اللحظة الأخيرة؛ لأتذكر أن غرفتي تقع في الطابق الثاني!
أقضي معه بعض الوقت الذي لا أدري كيف يمرّ في حضرته، أغرق في تأمل وجهه فأنا في أشدّ الشوق لتلك القسمات والملامح، التي لم تغادر لحظة ذاكرة القلب، لكنها اليوم حقيقة ماثلة أمامي تعلن على الدوام أنها مصدر أمني وأماني بعد الله، وأغرق في توقع ماذا ستكون حالي بعد انتهاء الزيارة، فأنا دائمًا أخشى النهايات قبل البدء، وما أظن غير أنه نصيبي من اسمي لا أكثر..
أزِف موعد المغادرة، ويصرّ والدي على عدم مرافقته حتى البوابة الرئيسة؛ فالشمس توشك أن تغيب، ويخشى عليّ العودة وحيدة أعبر الشارع الخالي من الناس؛ وعليه أن يعود للكرك، فيما تبقّى من اليوم، في ضوء شحّ المواصلات آنذاك، وصعوبة الطريق…
أعود أدراجي أجرّ الخطى، أتنسم ما تبقّى من عطر لم يبرد بعد، يتركه والدي خلفه في كل مكان يكون فيه، عدت وقلبي يسألني، ويلحّ في السؤال؛ متى سيأتي موعد الزيارة القادمة؟!
ما زال قلبي عالقًا هناك، واليوم ألقاني الحنين لأبي، وللجامعة الأم، ولذلك الطريق الواقع بين شجيرات السرو التي ذهب كل المارّين، والعابرين فيه إلى وجهاتهم، وأمنياتهم، وأحلامهم، وما تزال هي واقفة، شامخة، شاهدة على كل ما كان …..
وأنتم أيها الأحبة؛ ما زالت وجوهكم، وأصواتكم، وذكرياتكم، تشعل قلبي حنينًا، ويلحّ عليّ السؤال؛
أين أنتم؟!
بل أين نحن؟!
وماذا فعلت بنا الأيام؟!
من كان منكم هنا فليلقِ التحية ….