كافة الحقوق محفوظة © 2021.
ذاكرة عنيدة …. بقلم : د. منتهى الطراونة
تحشرني ذاكرتي دائمًا في زوايا حادّة، وتلقي أوراقها في وجهي تلحّ عليّ؛ أنْ أطلقي سراحي، فإني أكاد أختنق …
تبدأ مواسم الامتحانات في المدارس آنذاك، البيوت ضيقة، ومزدحمة، والمهمة شاقّة، لكنّ الهمّة عالية، والأمل كبير!
أعود من المدرسة، أتناول لقيمات لا يُقمن أوَدي، ولا يهمني أن يفعلْن، فهن مشترَكات مع الكثيرين، أحمل كتابي، أو كتبي (لامتحان يوم غد)؛ فأنطلق إلى أطراف القرية، حيث الفضاء واسع رَحب وآمن، وفرصة الانطلاق أكبر وأجمل، وأنا لا أحب المساحات الضيقة، وأرى أن استيعابي فيها يكون محدودًا، ومشوّشًا!
طرُقات القرية ليست خالية، (ولا أحد يسألك عن وجهتك، وإن حدث وقابلك أحد العابرين من كبار السن؛ يكتفي بالدعاء لك بالنجاح، وإن عرف مَن أنت؛ يرسل دعاءه، وأمنياته، وتحياته لكل أهلك، حتى الأموات لا ينساهم)!
طلبة ينتشرون هنا وهناك؛ ذلك يروح ويجيء في حركة مكوكية، يردد ما حفظ من آيات أو قصائد ترديدًا آليًّا غير واعٍ، وإن حدث وسأله أحدهم فجأة عمّا يدرس، يتلعثم ولا يجيب! وذلك يرتقي (مِصطَبة) يجلس على طرفها بقدمين متدليتين، يحركهما بطرق كثيرة، يعتقد أنها تعينه على الحفظ!
وآخر يقوم بعمل كُلِّف به، ومع ذلك تراه يحمل كتابه يراجع ما هو مطلوب، وآخر، وآخر ….
أنطلق أنا عبر زقاقنا الطويل الضيق، ذي البيوت المتلاصقة؛ فأتنفس الصعداء عند مدخله العريض، الذي يُسلمني إلى ساحات القرية؛ فأتجه موليّة وجهي شطر الغرب، حيث منطقة (البيادر) التي كانت جزءًا لا يتجزأ منها قبل أن تختفي، ويحلّ محلها بيوت من كل شكل ولون!
أنطلق (لبيدر العم عيسى المعاني) أحد أكبر مالكي الأرض آنذاك، بيدره الذي يشغل مساحة واسعة، تتيح لك التنفس بحرية، وممارسة ما تشاء من مراجعة دروسك، والركض، والهرولة، ومتابعة العصافير، واقتلاع النباتات الصغيرة، ورمي الحجارة؛ لتصطدم بحجر كبير هناك، تسمع صوت اصطدامه؛ فتحس أن كل ما بداخلك تكسّر هو الآخر، وانتهى!
كنت وما زلت أحب الطبيعة بكل تفاصيلها، أتحدث معها، وأعلن لها أسراري فهي المؤتَمَنة الوحيدة عليها، بعد فشل البشر
في مهمة حفظها، إلى أن يحين وقت لقائي بتلك البئر التي تحتل خاصرته، تحتضنها سلسلة حجرية على شكل قوس، أجلس مستندة إلى خرزتها أتأمل كل ما حولي، وأراجع دروسي التي أنتقي منها ما أحب، وأترك ما لا أحب، وأُقنع نفسي أن المعلمة أو المعلم لا يحبها مثلي، ولن يضع منها سؤالًا!
وفجأة أترك كتبي في عهدة خرزة البئر، واثقة من أن سيّارة لن يأتوا، وأنها في أمان!
أنطلق إلى السهل المقابل عبر رحلة هبوط في الوادي السحيق الفاصل بين قريتي وقرية (الهاشمية)، ثم ما ألبث أن أصعد؛ لأسير من جديد على ذلك الطريق المعبّد الواصل بين الكرك والطفيلة؛ والذي نادرًا ما تسير عليه مركبة من أي نوع!
أهبط، وأصعد في حركات رشيقة سريعة، في مهمة غير ضرورية، ولا أدري لماذا ما أزال أغرِق نفسي في قضايا ليست ملزِمة، أو مهمة! ثم ما ألبث أن أتذكر أن كتبي هناك تنتظرني، وأن شمسًا توشك أن تغيب، وأن أمي وشقيقاتي ربما يتساءلن عن تأخري، وأن أبي ما يلبث أن يعود من متجره، وأول ما يفعله؛ هو السؤال عن أي غائبة منا، ونحن نادرًا ما نغيب!
أيقظ ذكرياتي الغافية في زاوية مهجورة من الذاكرة، ذلك الطفل الذي يراجع مخزونه من مادة ما، في مساحة لا تتجاوز المسافة الفاصلة بين قلبه وقلبي!
وانشغال الناس اليوم بإعلان نتائج الثانوية العامة، وتلك الدعوات التي تملأ هذا الفضاء، وخوفي المَرَضي من إطلاق النار؛ أداة القتل؛ للتعبير عن الفرح، واحتمال أن تنقضّ تلك الرصاصات الطائشة على طفل يلهو في ساحة بيته، أو تخترق سيارة متوقفة، أو خزان ماء، أو قلب مكلوم!
وسؤال عن ذلك الزمن النقيّ الآمِن، وأهله الأتقياء الأنقياء، وسؤال أكثر إلحاحًا على قلبي، عن تلك البئر المُعطّلة في القصر المَشيد!!