كافة الحقوق محفوظة © 2021.
الكرك أدراج و حكايا… بقلم : د. منتهى الطراونة
في المدن المتربعة فوق الجبال تعانق السحاب؛ ثمة شرايين يصل عبرها الحب، والدفء إلى ساكنيها، اسمها (أدراج)!
تصعد قدماك تحملها الروح، ويحفّها القلب، ولا تسمع سوى خفقاته تخفي عنك (عمدًا وقصدًا) لهاث أنفاسك المتعبة، فلا تشعر بغير الامتنان، والعرفان بأن خطاك ثابتة تعرف مساراتها.
تنزل الأقدام ترافقها انحناءة بسيطة من ظهرك؛ حرصًا عليها من التعثر، انحناءة للحظات، ما تلبث أن تستقيم؛ لأنك لم تعتد الانحناء لغير الله!
في المدن العريقة؛ ثمة أدراج تصعد عبرها، وتنزل قاصدًا وجهات قلبك، وعقلك، تصلك فيها حكايات ساكنيها عبر روائح طعامهم، وأصوات موسيقاهم، وأغنياتهم تنبعث من أجهزتهم العتيقة، أصوات أدعية الآباء والأمهات، وأصوات صلوات وتراتيل، وهمس البيوت، وأسرارها المعلَنة بعفوية، لم تراعِ تلك الأصوات أن عابرًا ربما يسترق السمع!
على تلك الأدراج لهاث السائرين، وتحاياهم العابرة، وعليها رسم العشاق الصغار قلوبًا نقشوا فيها حروف أسمائهم الأولى؛ شاهدة على نزف ما لبث أن جفّ، وارتحلت معه القلوب (عِنوة) لغير وجهاتها!
على تلك الأدراج؛ وجوه ما تزال محفورة في الذاكرة، وحكايات ما تزال محفوظة في الصناديق!
على تلك الأدراج بعض من جلس يحتسي فنجان قهوة التعب، والجحود، والخيبة!
على تلك الأدراج؛ شغب، وبراءة، وطفولة ترقص رقصتها الأولى للحياة، ولاتدري عن أحزانها المؤجَلة!
هناك على الأدراج؛ ما زالت أجراس المدارس تحفّز تلك الخطوات، وتأمرها؛ أن أسرعي كي لا يفوتك المستقبل!
هناك على تلك الأدراج؛ شيخ أتعبت السنون خطاه، يقف أسفلها ناظرًا إلى الأعلى يدعو الله العون على الصعود، فهي الواصل الوحيد بينه وبين بيته الذي بناه في شبابه؛ غير آبه بما ستؤول إليه الأحوال!
على الأدراج بقايا أحاديث الجارات، وثرثرات ذهبت (أدراج) الرياح!
على الأدراج بقايا أوراق ورد جفّت، وتناثر عطرها!
على الأدراج رسائل عتيقة اصفرّت أوراقها، وغاب مرسلوها في طرقات الوَجْد!
على الأدراج بقايا خيوط طائرة ورقية عالقة هناك، تخلّى عنها ذلك الطفل حين أيقن أنها لن تعود إليه، تمامًا مثل أحلامه والأمنيات.
على الأدراج حكايا العابرين التي لم تجد من يكتبها!
على الأدراج أعقاب سجائر، وتساؤلات الغرباء، وروائح القهوة، وأحاديث الجوى!
هناك على تلك الأدراج؛ أنا، وعشقي للمدينة سيدة المدن، وعالية الجناب، وقلبي العالق على درج بجوار قاعة حملت اسم (هزاع) الشهادة، والشرف، والرجولة، والنزاهة، ونظافة اليد، الدرج الأكثر شهرة في المدينة، على يمينك وأنت تصعد مدرسة أروى العريقة، وعلى يسارك مبنى البريد، وبيوت الأحبة والأصدقاء التي قد تدخل بعضها دون استئذان لتستريح!
يسلمك لشارع تربعت فيه صيدلية المدينة، وصخر الأكثر شهرة وحكايات، ويُحمَل عبره الكركيون إلى رحمة الله في الرحلة الأخيرة.
هو الشريان الذي كان يوصل قلبي لأماكن زرعتُ فيها بتلات من روحي، وذوْب نفسي، قبل أن تنقضّ عليه مشاريع لم ترعَ في المدينة العريقة إلًّا ولا ذمة!
هناك على تلك الأدراج واهتراءات حجارتها، وتآكل مفاصلها، وتفاوت ارتفاعاتها، حكاية واحدة تقول:
ثمّة من يستريح هنا!